الأحد، 15 ديسمبر 2013

تحت الأرض

بقلم مصباح الخالد


هل نحن تحت الأرض أم فوقها؟
يقدّم إمير كوستوريكا مرثيّة لبلدٍ كان يُدعى يوغوسلافيا قبل أن يتمزّق، فيفتتح فيلمه «تحت الأرض» بعنوان جانبيّ تهكّميّ لكنّه يتّسم بالحنين: «ذات يومٍ كان هناك بلد، وعاصمته بلغراد».
فيلم يروي تاريخ بلد كفّ عن الوجود أو انشطر الى أجزاء، فيعرض فترة زمنيّة تستغرق خمسين عامًا من الغزو النازيّ لبلغراد في أثناء الحرب العالميّة الثانية وحتّى الحرب الأهليّة الدامية، مرورًا بحكم الرئيس تيتو.
ماركو وبلاكي صديقان من الصرب يقومان بأعمال غير مشروعة من بينها المتاجرة في السوق السوداء. وبعد قصف بلغراد في نيسان (أبريل) 1419 والاحتلال النازيّ، يبدأ الاثنان ببيع الأسلحة للمقاومة، فيتعرّضا لمطاردة المخابرات النازية (الجستابو)؛ فيلجأا مع عائلتيهما الى قبوٍ تحت الأرض. وبعد انضمام عدد كبير من الفارّين إلى المكان، ينشئ الأخوان فيه معملا لصنع الأسلحة من أجل بيعها في السوق السوداء. ماركو هو الوحيد الذي يخرج، ليشكّل الرابط الوحيد مع العالم الخارجيّ، في حين يمكث الباقون تحت الأرض. وينهزم الألمان وتنتهي الحرب، لكن ماركو الانتهازيّ والأنانيّ يخفي عنهم هذه الحقيقة من أجل الاستفادة من مجهودهم في إنتاج الأسلحة، ويتحوّل بفضلهم إلى تاجر أسلحة ذي نفوذ يؤهله لأن يحرز سلطةً واسعة. وأوهم ماركو أصدقاءه والمقاومين بأنّ الحرب لم تنته بعد، فكان يُسمعهم صفارات الإنذار والأغاني النازيّة والأنباء الملفّقة.
في العام 1961، وبعد عشرين سنة، يقوم ماركو - الذي يُعتبر بطل حرب - برفع الستار عن تمثالٍ مصنوع لصديقه بلاكي تخليدًا لبطولته ولذكرى مقتله في أثناء مقاومته للاحتلال، في حين أنّ بلاكي والآخرين المختبئين تحت الأرض لا يزالون يعتقدون بأنّ الحرب لم تنته بعد. وبعد موت الرئيس تيتو تبدأ يوغوسلافيا بالتمزّق الى دول، ويجد ماركو صعوبة متزايدة في إطالة أمد الأكذوبة التي بثّها وكرّسها سنوات طويلة، خصوصًا وأنهم يتأهّبون لشنِ هجومٍ كبير على قوّات الاحتلال (النازيين) في الخارج، وهذا يترافق مع رغبة فريق من السينمائيّين بتصوير بطولات المقاومة، وبالتالي يفضي الى مقاتلة الممثلين معتقدين - بسبب أزيائهم العسكرية - إنّهم نازيون ثم يعودون الى المخبأ.
بعد ذلك ننتقل إلى الوقت الحاضر، أوائل التسعينيّات، حيث تنطلق بالخطأ قذيفة وتُحدث فجوة في القبو، ومنه يخرج بلاكي والآخرون ليجدوا أنفسهم في أنفاق سريّة تحت الأرض، وليكتشفوا عجزهم عن معرفة بلادهم التي دمرتها الحروب الأهليّة وتمييزها. فالقنابل والخرائب وحمّامات الدم في كلّ مكان. وتتّضح لهم الخديعة المُرعبة. وعندما يقبضون على ماركو المقعد وزوجته، يأمر بلاكي بإعدام صديقه حرقًا فيقول هذا قبل أن يموت: «الحرب لا تكون حربًا حقيقيّة إلا عندما يقتل الأخ أخاه».
وينتهي الفيلم بمشهد طوباويّ خياليّ يلتقي فيه الأحياء والأموات في وليمة جماعيّة على قطعة أرض جرداء تنفصل عن البرّ الرئيسيّ لتطفو على المياه وتنجرف على مهل، بينما يحتفل الأشخاص. ثم تنزل كتابة تقول: ليس لهذه القصّة نهاية.
إنّ سينما المخرج إمير كوستاريكا تمثّل تجربة متفرّدة في السينما الأوروبيّة بوجه خاصّ والسينما العالميّة بوجه عام. فأفلامه قصائد إنسانيّة مشغولة بفهم كبير للواقع في إطارٍ من الفنتازيا الراقية والكوميديا السوداء، وفي عالم إمير كوستاريكا السينمائيّ. الأعاجيب هي المناخ السائد والفعل الأكثر سرياليّة وواقعيّة في آنٍ واحد.
في هذا العمل السينمائيّ، اجتهد كوستاريكا في تشييد عالم سينمائيّ، يتجاور فيه الواقع والخيال، أو بالأحرى المزج بينهما. شخصيّاته واقعيّة جدًّا برغم حديّتها وتطرّفها ومبالغاتها. إنّها في نهاية المطاف تشبه آخرين حولنا وتشبهنا. وكذلك هو محيطها وحياتها اليوميّة. سورياليّ في الظاهر، كثير الحيل والمبالغات، مفرط الى حدّ التخمة. ولكن كأنّما بيد سحريّة، يتحوّل في جوهره إلى عالم مألوف. هل هي ألفة عالم سينمائيّ بات مفضوح الرموز والشيفرات؟ كلا! إنّه أبعد من ذلك. عالم إنسانيّ، شعريّ، موسيقيّ لكنّه مكثّف ومتطرّف. في كلّ ذلك، ينجذب كوستاريكا دوماً إلى الإنسان أو إلى أعجوبة الحياة، الحياة الممكنة في كنف تضافر الظروف غير المواتية. في هذه القدرة، سواء قدرة الإنسان على اجتراح معجزة الحياة او قدرة الحياة على تلوين نفسها وتجديدها لتبقى ممكنة، تكمن الأعجوبة التي يجلّها كوستاريكا ويتغنّى بها، والتي تمنح أفلامه، في ما هي مفارقة غريبة، جرعة تفاؤل.
إمير كوستاريكا يبعث البهجة في نفوسنا من خلال أشدّ الموضوعات البشريّة عدوانيّة ألا وهي الحرب الأهليّة والمتاجرة بدماء الإخوة وخيانة الذمم والصداقات. إنّه فيلم يراهن على الروح الإنسانيّة العظيمة في صمودها بوجه القمع والطغيان.
أتمنّى لكم مشاهدة ممتعة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق