الخميس، 30 أغسطس 2012

مملكة شروق القمر - ويس أندرسون (2012)


بقلم الأب أوليفر بورج أوليفيه اليسوعيّ 
نقلتها إلى العربيّة جانيت رزق

إنّ اختيار إدارة مهرجان كان السينمائيّ للفيلم الأمريكيّ «مملكة شروق القمر» لافتتاح مهرجانها عام 2012، دليلٌ على أهمّية المخرج ويس أندرسون. فهذا السينمائيّ يقدّم لنا العالم السرياليّ، فبعد أن أثبت ذلك من خلال فيلمه «أسرة تينابوم الملكيّة» الذي رُشّح سابقًا لنيل جائزة الأوسكار، وإنجازه لفيلمه الناجح «السيد الرائع فوكس» الذي هو طفولي إلى حدٍّ ما، يعود ويس أندرسون لعيش المغامرة مع فيلم «مملكة شروق القمر». الفيلم مزيج من المغامرة والكوميديا الصبيانيّة الذي يمتلك أندرسون وحده سرّها، ويظهر هذان الموضوعان الرئيسيان لدى المخرج دائمًا منذ فيلمه «الأسرع».
من خلال استقباله وجوه جديدة في فريق ممثليه المدرّبين والمتماسكين، يتمادى المخرج في قصة أقل سوادًا من فيلمه الضخم «على ضفاف دارجيلنغ المحدودة» ويجد مرّة أُخرى في هذه القصة التي شاركه في كتابتها رومان كوبولا مادة مثاليّة للسماح بتطوير الدمى البشريّة المتأرجحة بين الحزن والاكتئاب، والتي هي باستمرار على وشك الانفجار ولكنها تتمكن دائمًا من العثور على طريق الخلاص. ويوقّع ويس أندرسون بعد فيلمه «للأطفال»، فيلم أطفال جميل بشكل لا يُصدّق، إذ يُسيطر فيه على جوهر الشبيبة ويواجهها بأفضل شكل مع عالم الكبار. كما هو الحال دائمًا مع المخرج، فإن الفيلم جميل إلى حدّ لا يوصف، إذ هو مثير للضحك وللدموع! ولا يمكن لمهرجان كان السينمائيّ الخامس والستّين أن ينطلق على نحو أفضل من هذه الانطلاقة.
في بداية فيلم ويس أندرسون، يبدو أولاد الزوجين اللذين يقوم بدورهما كل من بيل موراي وفرانساس ماكدورماند سعيدين وهما يستمعان إلى تسجيل لسمفونيّة يفسّر ويحلل تأليفها ويشرح أقسامها ويعلل ثغراتها وتنوّعها. ف«مملكة شروق القمر» هي النسخة الألف للمؤلف الذي أعاد التقسيم على طريقته الأندرسونيّة وقدّم لنا جديدًا غنيًّا بالشخصيات حيث نجد الموسيقى الجامحة بالمعنى الحرفيّ والمجازيّ الذي يقدّم زوايا جديدة وأبعاد جديدة في السينما لهذا المخرج الأميركيّ.
القصّة بسيطة بقدر ما هي سرياليّة، ولكن وراء هذا العالم الخياليّ، هذه الخرافة المُسكرة، تختبىء نظرة جارحة على المجتمع المتحضّر والأسرة البورجوازيّة. يعيدنا ويس أندرسون إلى العام 1965 ويأخذنا إلى جزيرة وهميّة صغيرة في نيو انغلاند. ولا أحد يسكن في هذه الجزيرة باستثناء شخصيات القصّة. هناك المنارة التي تعيش فيها البطلة سوزي مع عائلتها، ومعسكر للكشافة حيث البطل وسام يكافح ضد القيود المفروضة عليه والتي تبدو صبيانيّة. التقى وسام وسوزي في الصيف الماضي، وأصبحا أصدقاء، ومنذ ذلك الوقت تراسلا واتّفقا على الهروب من واقعهما ولو لفترة أسبوع واحد، لعيش مغامرة بعيدًا عن هيمنة الكبار.
الفتى سام (جاريد غيلمان) يتيم، جدّي وراء نظارته السوداء الكبيرة، وهو خبير في الحياة الكشفيّة، أما سوزي فتهوى القراءة بشدّة وهي حالمة. عندما اجتمعا كما خطّطا، في مرج في الجزيرة، حمل سام معه كلّ معدات التخييم وكلّ ما يحتاجانه للبقاء على قيد الحياة، واحضرت سوزي بعض الكتب للقراءة وقطتها وجهاز كمبيوتر محمول وأقراص وبطاريات إضافيّة. الجزيرة ليست كبيرة، لكنّهما أعتقدا أنّ هناك مكانًا يمكنهما أن يختبئا فيه. كان سام مُجَهّزًا بخرائط تساعدهما على المشي، وأتّبعا مسارًا هنديًّا قديمًا، أدّى بهما إلى خليج مُنعزل أطلقا عليه اسم «مملكة شروق القمر». ونصبا خيمتهما هناك، وفي وقت لاحق قال قائد الفرقة الكشفيّة لسام أنها أفضل خيمة رآها في حياته. وفي هذا الخليج جلسا بجوار بعضهما البعض وأخذا يتأمّلان المياه، ونستطيع القول أنّهما يتأملان المرور من البراءة إلى مرحلة النضوج  التي يمكنها أن تكون مُثيرة للقلق.
في غضون ذلك، ينطلق عالم الكبار القلق للبحث عنهما. ويتّصل أهل سوزي بالشرطة بارشاد الكابتن شارب (بروس ويليس) وقائد الفرقة الكشفيّة (ادوارد نورتون) الذي يقود فرقة الكشافة التي تضم أصحاب سام، الذي لا تعجبه كثيرًا طريقته الاستقلاليّة في قيادة الفوج. وتشارك سيدة تعرف فقط باسم الخدمات الاجتماعيّة (تيلدا سوانتون)، لأنّ سام كيتيم يُمثّل موضع اهتمام خاص.
تقنية لويس أندرسون السينمائيّة قوية جدًا وشخصيّة جدًا، فشجاعته تظهر بقوّة منذ المشهد الأوّل للفيلم الذي يمثّل نموذج للبنية المعتمدة من قبل أندرسون لأسلوب الفيلم بكامله. نجد سلسلة من اللقطات المأخوذة لجميع الاتّجاهات كي يعرفنا أندرسون على عائلة سوزي القاسيّة والفوضويّة. يفرض «مملكة شروق القمر» فرادته على الفور من خلال صورته المُصفّرة، ولقطاته المأخوذة بعناية ودقّة التي تُعطي دائمًا تناسقًا يعبّر عن الصورة بمعناها الحقيقيّ، ويُشدّد المخرج على الصورة من خلال لقطات تـأخذها عين الكاميرا من ضمن إطار لقطات أُخرى، وغالبًا ما نرى نظرته إلى الأمور من خلال منظاره الخاصّ الذي لا يمكن فصله عن سينما ويس أندرسون. هذه الصرامة المُفرطة رائعة لتشكيل عالم من البالغين جامد ومحدود ومنغلق على نفسه.
فالصرامة نجدها في افتتاح المخيم الكشفيّ، هي مشوار طويل يعبّر عن قساوة هذا الكون القائم على القواعد. ويسخر ويس أندرسون كثيرًا من عالم الكشفيّة العزيزة على قلب العم سام، ولكن دون أن يجعله موضوع لمناقشة فيلمه الذي يذهب أبعد بكثير من نظرة مخرج بسيطة إلى نمط حياة جماعيّ. «مملكة شروق القمر» هي بحث، وبحث متعدد الوجوه من أجل الحرّيّة والحبّ.
كما تلعب الموسيقى دورًا هامًا في الفيلم، ويقول أندرسون في مقابلة أجرتها معه مجلة «دفاتر السينما» أنّه من خلال عمله مع الموسيقار الكسندر ديسبلات أرادا لفيلم «مملكة شروق القمر» وقعًا أكبر كي يفرضا على المشاهد أحلام الطفولة. ولذلك، فبقدر ما يتغلغلا في الطبيعة، تتضخم والموسيقى حتى تُصبح صاخبة كقرع الطبول. صحيح أنهم يَعْبُرون جزيرة صغيرة في فصل الصيف، ولكن بالنسبة لهم ذلك الأمر هو مثل رحلة استكشافيّة في جبال الهيمالايا، وموسيقى الختام هي تحفة فنيَّة. واستخدام الألوان جيد جدًا أيضًا. كما يذكّرنا الفيلم بأفلام أُخرى ومؤلفين آخرين.َ الإعلان عن العاصفة يُمثّل عاصفة فترة المراهقة والاضطرابات التي تحملها هذه المرحلة من الحياة، كما العاصفة التي يمكنها أن تعرض رحلة المراهقين ومغامرتهم إلى الاضطراب.
أخيرًا، على الرغم من المظاهر، «مملكة شروق القمر» هو فيلم مفعم بالروحانيّة، وليس من قبيل الصدفة أن يجري واحدًا من أكثر المشاهد الجميلة في الفيلم عند الخروج من الكنيسة. لكن خطاب ويس أندرسون يرتكز أيضًا على قوّة الخيال، هذا ما سمح له بتقديم فيلم مطابق لخط سبيلبرغ في موضوعه الرئيسيّ. بالمقارنة مع عالم الكبار، الصلب والهستيريّ وغير القادر على أداء المشاعر، وعالم الأطفال الحرّ والقادر على الخروج من أسوأ الحالات ببساطة بسبب قدراتهم (المتعلّقة بخيالهم وبالتالي بطفولتهم) يلمس «مملكة شروق القمر» نوع من تقديم الطفولة بشكلها المُطلق. السلطة للأطفال لأنّهم يتمتّعون بصفاء الشعور بالحبّ، وجمال البراءة، لأنّهم قادرون على استيعاب التدريس القاسي لخلق فلسفة خاصّة بهم.
مرّة أُخرى، يقول نيكولا جيللي أن «مملكة شروق القمر» هو فيلم رائع من الأفلام الغنائيّة المُفرحة بجنون، التي تدعو باستمرار إلى حزن المشاهد لأنّها تُعيد شبح الطفولة وأوّل بدايات الحبّ أو الأحاسيس الجسديّة، فيلم بين الهزليّ والتعبيريّ، وينصّ على الحبّ النقي في نهاية جميلة لشكل من أشكال الرؤيا. الاكتئاب، مؤذٍ للغاية، ويحمل جنون وديع وزوجين رائعين من الأطفال، «مملكة شروق القمر» جميل في الصورة كما في النص، هو ترنيمة للحرّيّة ونجاح آخر باهر للموهوب ويس أندرسون.

شاهدوا معنا مقاطع مختارة من الفيلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق