الخميس، 21 يونيو 2012

فيلم مارسيدس - هادي زكاك

عن صحيفة النهار اللبنانيّة


يروي هادي زكاك في "مارسيدس" (68 د.) بأسلوب ساخر جداً، كيف تمكنت سيارة ألمانية من أن تتحول أيقونة لبنانية، وبقيت القاسم المشترك والشاهدة العيان منذ أيام "البرج" حتى زمننا الراهن.

السيارة التي باتت الرقم 19 في احصاء الطوائف، حملت ألواناً حزبية وشعارات دينية. نُقل فيها المهجرون والاسماك والخضر وأغصان الشجر. زكاك يلقب المرسيدس بالعائلة، مدخلاً ايانا في ثقافة التسميات اللبنانية لهذه السيارة الألمانية: "المدعبلة"، "الشبح"، "الغواصة". يستند الفيلم الى عملية بحث هائل واضح في لملمته للتفاصيل. مشاهد كثيرة يلجأ فيها زكاك الى اعادة الأحياء، مقابل لجوئه في مشاهد أخرى كثيرة الى صور الأرشيف.
 
قبل نحو عشر سنين، فيما كنتُ في مهرجان قطري، التقيتُ مخرجاً المانياً قال لي إن من المؤكد أن كل سياراتنا في لبنان فرنسية الصنع بحكم الانتداب. فقلتُ له انه مخطئ وان أغلب السيارات من ماركة مرسيدس. فظلت هذه الملاحظة في رأسي، وخصوصاً ان هذه السيارة تعكس كل تاريخنا وتراثنا. بالاضافة الى أنني أحبّ السيارات، بحيث أجدها على ترابط مع السينما، كونها نوعاً من شاشة متنقلة. السيارة مفتاحٌ لاكتشاف المدينة وتحديدها. هناك سببٌ آخر ايضاً خلف انجازي هذا الفيلم وهو أنني، بعد مجموعة اعمال ركزتُ فيها على مسألة الطائفية وصوّرتُ من خلالها أناساً وضعوني في حالة مرضية، كنتُ في حاجة الى أن اتعامل مع شيء. شيء استطيع أن اجسده كما يحلو لي تجسيده. السيارة هنا حجة لأدخل من خلالها على التاريخ. هذا كان أيضاً مرتبطاً مباشرة بـ"درس في التاريخ" حيث منهج يوقفنا عند تاريخين أساسيين هما 1943 و1946، بينما كان يستهويني التوقف عند التاريخ الذي لا يعلّمونه في المدارس. لذا، كنتُ اريد أن يغطي الفيلم مرحلة الخمسينات الى اليوم

 
في الأفلام التي أنجزتها أخيراً، نلاحظ هذا الموزاييك الخاص بلبنان وتركيبته الطائفية، ما يفتح المجال للكثير من التنوع. انه موضوع سينمائي...
-
 أشعر احياناً انني انجز الفيلم ذاته. كل جديد لي عن البيت نفسه، ولكن مرة أدخله من الباب ومرة من الشباك، الخ.
 
انه بيت بمنازل كثيرة... بالنسبة للفيلم الذي انجزته قبل هذا بفترة قصيرة واسمه "تاكسي بيروت"، والذي أخفاه جديدك بظلاله، أخبرني كيف تجد الوقت لتنجز فيلمين في فترتين زمنيتين متقاربتين...
 
باشرتُ مشروع "مارسيدس" عام 2008 وعملتُ عليه ثلاث سنوات بشكل متقطع، انجزت خلالها "درس في التاريخ" و"تاكسي بيروت"، وايضاً "تاكسي صنعاء" الذي لم يصدر بعد. يجب أن أقول هنا انني أنشأتُ سلسلة أسمها "تاكسي المدينة"، 13 فيلماً عن 13 مدينة من الشرق الأوسط والبلدان العربية، اشرفتُ على ثلاثة منها ولكني لم انجز منها الا فيلمين عن بيروت واليمن. انها سلسلة بورتريهات لمدن من خلال سائقي سيارات الأجرة. هذه السلسلة ستعرض على "الجزيرة الوثائقية" في منتصف هذه السنة. اذاً، كنتُ اتابع مشاريع عدة بالتوازي، لكن كل مشروع كان في مرحلة مختلفة عن الآخر. واحدٌ كان في مرحلة التصوير، وآخر مثلاً في مرحلة المونتاج، لكن كل فيلم تغذى من الثاني. بسبب سائقي التاكسي في "تاكسي بيروت"، استطعتُ تجسيد شخصية سيارة المرسيدس، كون السائقين كانوا يحدثونني كثيراً عن ذكرياتهم مع "المدعبلة"، الخ. أما في "درسٌ في التاريخ"، فكنتُ اطالع فصولاً من التاريخ اللبناني لأعرف كيف سأكتبه. الأشياء تداخلت. على كل حال، اعتبر "مارسيدس" خلاصة كل أفلامي

 
سؤال سخيف، لكنه يطرح نفسه: كيف تمت رحلة البحث عن السيارات؟
 - المفاجأة الاولى عندما وجدتُ كم أن سيارة مرسيدس 180 باتت نادرة. بدأتُ أبحث عن السيارات، ما جعلني أزور كل المناطق اللبنانية بهدف التصوير. كنت اريد سيارات مرسيدس 180 في حالات مختلفة، بين التي فُككت وتلك التي لا تزال صامدة أمام الترهل. تعرفتُ ايضاً الى أناس يجمعون السيارات، أشخاص مثل روني كرم وفاروق الخليل اللذين ساعداني لتأمين سيارات في حالة ممتازة، وهما أيضاً مولعان بالسيارات. هذا كله تطلب الكثير من الوقت، لأني زرت مناطق كثيرة. هذه مرحلة جاءت بعدما كنتُ قد بحثت كثيراً عن السيارات في الأرشيف

 
هل جاءتك فكرة مزج المتخيل بالوثائقي منذ البداية؟
-
 بدأتُ بفكر محض وثائقي، بمعنى بحثتُ في الارشيف على مدار أشهر طويلة، وانطلاقاً من هذا الارشيف أنجزتُ مونتاجاً أولياً، كي أحدد ما الهامش الزمني الذي يغطيه هذا الارشيف، وما هي المراحل المتبقية التي تلزمني مشهديات لها. ثم، بدأتُ أكتب سيناريواً، وعلى اساسه بتُ افصل بين المراحل التي ستكون فيها المرسيدس مادة وثائقية والمراحل التي ستبقى فيها ممثلة.
 
ماذا عن الجانب التهكمي والساخر؟ مَن يعرفك يقول ان هذه شخصيتك. ما ضرورة هذا الجانب في الفيلم؟
- هناك تشابه بيننا. لكني اعتقد ان هذا متأتٍّ من تراكم. يعني مثلاً: انت تعيش في بلد تزعجك فيه أشياء كثيرة، ثم تنجز الأفلام وأنت تعلم أن الأفلام لا تغير الواقع، فتشعر انك في حاجة الى أن تكون أكثر من مجرد شخص ينقل واقعاً ما ويصفه. لذلك، كانت السخرية، التي جاءت نتيجة وجع كبير.
 
نعلم انه هناك طرقاً عدة في صناعة الفيلم الوثائقي. كيف تعمل أنت؟
- أعمل كثيراً على البحث. أحياناً، اجرب كتابة سيناريو استباقي انطلاقاً من فرضيات يمكن أن تحصل خلال التصوير. ثم، عندما اصل الى الارض، اتركها تقودني. لكن، احبذ التحضير المكثف، لأستطيع التفاعل مع الارض ولا اضيع. هذه طريقتي التي اعتمدها دائماً.
 
ولكن، هل كنت عملت بطريقة مختلفة لو كنت مستقلاً وليس عندك حسابات تسددها لجهة منتجة؟
- على "مارسيدس"، كنتُ مستقلاً. كنا وفريق العمل أحراراً من قيود كثيرة، لا تاريخ للتسليم ولا مال كثيراً في جيوبنا. ولكن، كوني منظماً جداً، فأعرف ما الخطوات التي يجب اتخاذها. عموماً، هي تركيبة شخصية تنعكس على العمل.
 
هناك فكرة التحريف في الفيلم، بدءاً من النحو الذي كُتب به اسم مرسيدس (Marcedes) بالحرف اللاتيني وصولاً الى النشيد الوطني اللبناني...
 
استلهمتُ هذا الشيء ميدانياً، عندما اكتشفتُ مثلاً ألقاباً كـ"المدعبلة". كنا تعوّدنا على تسميات من مثل "غواصة" أو "شبح" علماً ان التسمية الأخيرة ارتبطت بفكرة سياسية معينة ("الأشباح" أي المخابرات) . فوجدتُ انه يمكنني أن استفيد من هذه الامور كي أربط احياناً تاريخ عائلة المرسيدس بتاريخ ألمانيا وانعكاسه على لبنان؛ كيف مثلاً تتوحد ألمانيا فتنتهي الحرب في لبنان، وتضرب اسرائيل لبنان جراء العلاقة بين العائلة وهتلر. للفيلم تركيبة لعبية، ولا أخفي أنني كنتُ ألعب بالكثير من الأمور.
 
كيف جرى التصوير ميدانياً؟
 
- صوّرنا على مرحلتين: اقتصرت المرحلة الاولى على البحث عن السيارات، وكأنك تبحث عن شهود؛ هذه مرسيدس في بيتها، واحدة أخرى في مقر وظيفتها، الخ. اما المرحلة الثانية فكانت التقاط المشاهد المشغولة بروح روائية. هذا الجانب جعلني أحنّ الى ما يختزنه داخلي من رغبة في صناعة فيلم روائي، وهو الشيء الذي ابتعدتُ منه منذ فترة طويلة. في الوثائقي أعتمد دائماً اللقطة الاولى ولا اعيد، كما في الروائي. في الوثائقي القدر والانتظار وطول الاناة. هناك ايضاً المشي. مشينا كثيراً في هذا الفيلم لنعثر على السيارات. كان علينا ان "نمشط" مناطق كثيرة.

 المونتاج ألم يكن معقداً؟
 - المونتاج استغرق وقتاً طويلاً. في الوثائقي هناك عادة المقابلات التي تشكل هيكلية صوتية لتركيب الفيلم. هنا، لا شيء من هذا كله، سوى هدير سيارات تمشي. ليس حتى من تعليق صوتي. كنتُ مصراً على غيابه منذ البداية وفي الكثير من جلسات المناقشة، كان هناك اتجاهان. لكن مع اميل عواد مصمم الصوت والموسيقى، كنا راديكاليين في رفضنا للتعليق. كنا نريد صوت البشر كمادة ارشيفية وليس كعنصر مضاف. خلال المونتاج، كان هناك عملية بناء وتدمير مستمرة.
 
أخيراً، هناك نظرة دونية الى الفيلم الوثائقي. هناك فكرة خاطئة انه يجب أن تفضي التجربة الوثائقية لدى مخرج من المخرجين الى السينما الروائية...
عبر السنوات، استطعتُ التغلب على هذا الهاجس وتصالحتُ مع الوثائقي. عندما يحلم المرء بالسينما، لا يحلم بالوثائقي بل بالروائي (...). وتأكيداً لما تقوله، لا يزال الناس الى اليوم، يسألونني: "متى ستنجز فيلماً؟". في المقابل، في السنوات الأخيرة، وتحديداً في لبنان، أجد مستوى الأفلام الوثائقية افضل من الروائية. على الاقل لدى هذه الافلام ما تقوله. الروائي مركّب، وفيه شيء غير صادق وهناك دائماً العقدة التي تفرض علينا أن نثبت للآخر أننا نستطيع أن ننجز افلاماً مثل التي ينجزونها. هناك حقل اختبار أوسع في الوثائقي وليس لدينا ما نثبته من خلاله.
 
كأن ما تقوله لنا الأفلام الروائية، تأتي الأفلام الوثائقية لتكذبه...
 
بالضبط (...).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق