السبت، 19 مايو 2012

كيف يُصبح فيلم السينما موضوع تأمّل؟


من الواضح أنّ إغناطيوس دي لويولا لم يتحدث قطّ عن قراءة لفيلم، لسبب بسيط ضمن عدّة أسباب وهو أنّ السينما لم تكن قد دخلت بعد في الساحة. ومع ذلك أعتقد أن ما يعرضه علينا إغناطيوس في كتابه الصغير بعنوان "الرياضات الروحيّة" عن التأمّل والتفكير المــُعمّق في نصوص الكتاب المقدّس، يمكن أن يقدّم لنا مسارًا لقراءة معيّنة لفيلم. هذه القراءة تسمح لنا بالدخول بشكل أعمق في معنى العمل السينمائيّ لنرى كيف يؤثّر فينا ويتحدّانا.

بقلم الأب أوليفر بورج أوليفييه
نقلها إلى العربيّة نُهاد فرح

 

إنّني أبعد ما يكون من أن أكون أوّل مَن يؤكّد بأنّ السينما تحمل بُعدًا ليتورجيًا، عندما يتم عيش الفيلم كخبرة مشتركة، مع الجمهور، في صالات السينما، أو بُعدًا يدعو إلى التأمّل والتفكير المـــُعمّق عندما يُعاش كخبرة فردية أمام التلفاز في المنزل، حتى إنّ أحد الآباء اليسوعيّين الكنديّين يطرح خبرة " الرياضات الروحيّة " انطلاقًا من الأفلام.


هناك بدون شكّ أساليب تقنيّة وعلميّة لتحليل فيلم سينمائي ونقده، كأسلوب تحليل بنية الفيلم، كما يقترحه الأب نازاريو تادّيي، وهو يسوعيّ إيطاليّ، مُخرج وناقد سينمائيّ، مثلما يوجد عدة أساليب لقراءة النصوص الكتابيّة وتحليلها وتفسيرها، لكنها أساليب يقوم بها غالبًا مختصّون في هذا المجال.


لكنّني أعتقد بأنّ هناك أيضًا إمكانية القيام بقراءة شخصيّة، يمكنها أن تساعدنا على أن لا نبقى مشاهدين "سلبيّين" أمام الشاشة. نستطيع أن نعيش موقفًا منفتحًا، موقفاًا متأمّلاً يساعدنا على أن ندَع مشاهد الفيلم تلمس مشاعرنا وتطرح علينا الكثير من التساؤلات.


في حديثه عن التأمّل والتفكير المــُعمّق، يبدأ إغناطيوس بدعوتنا إلى التركيز على ذواتنا، وإحلال الصمت في داخلنا، وذلك يحدُث في صالة السينما عندما تُطفأ الأنوار. أما في حال مشاهدة التلفاز فعلى كلّ واحد منّا، بالتأكيد، أن يقوم بهذا التركيز وإحلال الصمت في داخله. بعد ذلك وخلال فترة عرض عنوان الفيلم وتسلسل الأسماء، نتذكّر الموضوع، أي عمّا سيعرضه الفيلم. ولنتمكّن من تحقيق ذلك بشكل جيّد، وكتهيئة تذهب إلى ما هو أبعد ( وهو ما يقترحه أيضاً إغناطيوس)، من الأفضل قراءة ملخّص يتتبّع الموضوع ويقدّم الشخصيات المختلفة بخطوطها العريضة. من السهل الحصول على هذه المعلومات بواسطة الإنترنت إذ يكفي كتابة عنوان الفيلم على غوغل، وبهذا الأسلوب يمكن أن نُهيّء أنفسنا للدخول في الموضوع. من المستحسَن أيضًا، قراءة شيء ما حول المرحلة التاريخيّة والاجتماعيّة الّتي يتكلّم عليها الفيلم وعن الفترة الّتي تمّ فيها إخراج هذا الفيلم. على سبيل المثال، إذا أخذنا فيلم (الرسالة The Mission) لرولان جوفيّه، وهو دراما تاريخيّة تدور حول الإرساليات اليسوعيّة بين شعوب " الغواراني " في أمريكا الجنوبيّة في القرن الثامن عشر، سنعرف أن مخرج الفيلم مختص بالأفلام التاريخيّة التي تحمل في الغالب طابعًا دينيًا، وأنّه مخرج ملتزم بقضايا اجتماعيّة وتاريخيّة، والدليل على ذلك، على سبيل المثال، أفلامه ( الرسالة The Mission (، ( حقول القتل Killing Fields)، و (مدينة الفرح City Of Joy).


من المفيد أيضًا أن نعرف بعض الشيء عن وضع الكنيسة والنزاعات على السلطة، والتي قامت بينها وبين القوى العظمى في ذلك العصر: في الفيلم، النزاع مع إسبانيا والبرتغال، فكلّ ذلك يجعلنا قادرين على فهم الرواية ووضعها في مكانها الصحيح.


نبدأ بعد ذلك بمشاهدة عرض الفيلم محاولين أن نتابع بانتباه تطوّر الشخصيات والقصة وذلك برصد مختلف الممثلين الأساسيّين، الاستماع إلى الحوارات الّتي تدور بينهم وملاحظة تحرّكاتهم وأفعالهم. في نهاية هذه الرؤية الأولية للفيلم نتساءل: "ما هي انطباعاتي الأوليّة عن الفيلم؟ بماذا أشعر؟ هل أحببته أم لا؟ لماذا؟ ما الّذي أثار انتباهي؟ ما الّذي يُثير تساؤلاتي؟ ". قد تكون إحدى الشخصيات أو جملة ما، أو فعل، أو قد تكون القصّة بحدّ ذاتها. من المــُستحسن أن أدوّن بعض الملاحظات عندما أنتهي من التفكير في تلك التساؤلات والأفكار وهي ما يسميه إغناطيوس " فحص أو مراجعة التأمّل" (الرياضات الروحيّة رقم 77).


هذا التأمّل سيسمح لنا بقراءة أكثر عمقًا للفيلم، فلا نبقى في وضعيّة المشاهد السلبيّ، لكن يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك باتّباعنا مرة أخرى لنصيحة أغناطيوس الواردة في كُتيّبه : " بعد صلاة الإستعداد والمقدمات التحضيرية الثلاث، نكرر التمرين الأوّل والثاني، مؤكدين دومًا على بعض المقاطع الأساسيّة في التأمّلات، الّتي قد نكون تلقينا من خلالها المزيد من النور، وشعرنا بتعزيّة أكبر أو بحزن داخليّ، ونُنهي ذلك بمناجاة يليها صلاة الأبانا " (رر. 118)، بمعنى أن نشاهد الفيلم مرّة ثانية، ونتوقف بشكل خاص عند النقاط الّتي أثارت انتباهنا أو الّتي طرحت علينا تساؤلات أكثر من غيرها. يمكننا أيضًا إعطاء المزيد من الإنتباه في الرؤية الثانية، إلى أسلوب استخدام الكاميرا والطُرق المختلفة للتصوير ( زاوية واسعة، تأطير الأشخاص، صورة مجسّمة، وغيرها )، إلى الموسيقى، والإضاءة، والألوان، وأيضًا لعملية المونتاج. في فيلم (Action) سيكون إيقاع المونتاج سريعًا، وفي فيلم على مثال "بشر وآلهة"، الذي يتكلّم على رهبان كرتوسيّين، سيكون الإيقاع بطيئًا وفق نمط حياة الرهبان الهادئة.


لنبقَ مع هذا الفيلم الأخير كمثال لتوضيح ما أعنيه بقراءة ثانية أعمق وما يمكن أن تقدّمه لنا. عندما رأيت الفيلم للمرة الأولى، تأثّرت بقصة هؤلاء الرهبان، إنّها رواية تعتمد على وقائع حقيقية جرت في الجزائر عام 1996، وقد وجدتها عميقة وغنيّة بالمواقف الإنسانيّة، وتولّد لدي انطباع بأنّ النقطة المحوريّة في الفيلم هو القرار الذي كان على هؤلاء الرهبان اتّخاذه في وضع شديد الصعوبة. عندما رأيته للمرّة الثانية، لاحظت بأنّ الفيلم في الواقع لا يذكر البلد الذي جرت فيه هذه الأحداث. إنّه لا يتكلّم إلا على دير " سيدة الأطلس " ونعلم بأنّ الأحداث تجري في بلد مُسلم، حيث تدور حرب أهليّة. وبذلك تأكّد انطباعيّ بأنّ نيّة المخرج كانت تقديم العملية الصعبة المتمثّلة في اتخاذ موقف أساسيّ في وقت الأزمات الخطيرة. وفي العمق فإنّ الفيلم هو قصة حول التمييز الجماعيّ ضمن الجماعة الرهبانية.


الإيقاع البطيء للمونتاج، وبالتالي للفيلم، تتخلله لحظات الصلاة الجماعية في المــُصَلّى حيث تلتقي الجماعة الرهبانيّة. الترانيم، التي تم اختيارها بشكل رائع، تُقدّم شرحًا أو مفتاح التفسير لفهم أفضل للحالة الروحيّة للجماعة الرهبانية. مرة أخرى، وبعد المشاهدة الثانية للفيلم، سيكون من الأفضل تسجيل الملاحظات كتابةً. لا داعي لكتابة صفحات عدّة، فقط بضعة أسطر لفهم أفضل لمـِا قد أصبح واضحًا أكثر.


في كتاب " الرياضات الروحيّة "، يقترح إغناطيوس أيضًا مشاركة مرافق بما حدث في أثناء التأمّل والتفكير المـُعمّق. بالتأكيد، سوف لن نطلب وجود مرافق لنناقش معه الفيلم، لكن يمكننا مناقشته مع الأصدقاء، والمشاركة بما لمــَس مشاعرنا من أحداث، وما يبدو لنا بأنّه الرسالة الّتي يوجّهها الفيلم، عن رأينا في اللغة السينمائية الّتي تمّ استعمالها وتقنية الفيلم، وفعاليتها في نقل هذه الرسالة .


كما في التأمّل والتفكير المــُعمّق، فإنّ الممارسة هي الّتي ستمنحنا العادة وتحسين الأسلوب لنتمكن من تذوُّق السينما والاستفادة منها بشكل أفضل.






بقلم : الأب أوليفر بورغ أولفييه اليسوعي

نقلتها إلى العربية : نهاد فرح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق